رسالة في الصبر والشكر
إلى كل مسلم ومسلمة
الحمــــد لله أهـــل الحمــد والثنـاء
المؤيد لعباده بقو ة الصبــر علـــى الســــراء والضـــــــــراء
والشكـر علـى البـلاء والنعمــــاء
قال تعالى فى كتابه الكريم :
{ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }النحل96
وقال أيضا : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }إبراهيم7
وقال رسول الله صلى الله عليه فى الحديث الشريف :
(( من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال بما فاته من قيام الليل وصيام النهار ولأن تصبروا على ما أنتم عليه أحب إلــى من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم ولكنى أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدى فينكر بعضكم بعضا وينكركم أهل السماء عند ذلك فمن صبر واحتسب ظفر بكمـال ثوابــه ))
ثم قرأ قول الله تعالــى : {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ }النحل96
إن الإيمان نصفان : نصف صبـــر ونصف شكــر وهما أيضا وصفان من أوصاف الله تعالى وإسمان من أسمائه الحسنى إذ سمى نفسه صبورا وشكورا فالجهل بحقيقة الصبر والشكر جهل بالإيمان وهو غفلة عن وصفين من أوصاف الرحمن ولا سبيل للقرب من الله تعالى إلا بالإيمان .
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى الصبر والصابرين فيما يزيد على السبعين آية مـن آيات القرآن الكريم فجعل خير الجزاء عن الصبر فقال :
{ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }النحل96
وزاد فى درجات الصابرين فقال :
{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ }الزمر10
وجعل الصابرين في معييته بأن وعدهم بأنه معهم فقال :
{ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }الأنفال46
وروى عن جابر رضى الله عنه انه سأل رسول الله عن الإيمان فقال : (( الصــــــــــــبر والسماحـــــــــــــــة))
2
وقيل أنه قد أوحى الله تعالى إلى داوود عليه السلام أن :
(( تخلق بأخلاقي وأن من أخلاقي أنى أنا الصبور ))
وقد روى أن عمر بن الخطاب بعث برسالة إلى أبى موسى الأشعري فقال :
(( عليك بالصبر واعلم أن الصبر صبران أحدهما أفضل من الآخر: الصبر فى المصيبات حسن وأفضل منه الصبر عما حرم الله تعالى واعلم أن الصبر ملاك الإيمان وذلك لأن التقوى أفضل البر
والتقوى بالصبر ))
وقال على كرم الله وجهه :
(( بنى الإيمان على أربع دعائم :
اليقين والصبر والجهاد والعدل ))
وقال أيضا :
(( الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد
ولا جسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له))
وقال ابن عباس رضى الله عنهما :
(( الصبر فى القرآن على ثلاثة أوجه : صبر على أداء فرائض الله تعالى وله ثلاثمائة درجة وصبر على محارم الله تعالى وله ستمائة درجة وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى فله تسعمائة درجة وإنما فضلت هذه الرتبة مع أنها من الفضائل على ما قبلها وهى من الفرائض لان كل مؤمن يقدر على الصبر عن المحارم فأما الصبر على بلاء الله تعالى فلا يقدر عليه إلا الأنبياء لأنه بضاعة الصديقين فان ذلك شديد على النفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم داعيا ربه :
(( أسألك من اليقين ما تهون على به مصائب الدنيا ))
كما أن من كمال الصبر كتمان المرض والفقر وسائر المصائب وقد قيل أن من كنوز البر كتمان المصائب والأوجاع والصدقــة .
3
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( من فقد واحدا من الولد وصبر على فقده كتب الله عز وجل ميزانه من الأجر كوزن جبل أحد ، ومن فقد اثنين وصبر على فقدهما أعطاه الله نورا يسعى بين يديه ينور له ظلمات الموقف ومن فقد ثلاثة من الأولاد وصبر على فقدهما غلقت أبواب النار إذا عبر عليها ومن صبر على فقد إحدى عينيه كان أول من ينظر وجه الحق تبارك وتعالى ويخلع له الخلع على أهل العمى وتنصب رايتهم قبل أهل البلاء جميعهم ومن صبر على فقد عينيه جميعا بنى الله له بيوتا تحت العرش فيها من الماء مالا يصفه الواصفون ومن صبر على الغسل والوضوء وخرج لتأدية الصلاة كتب الله له بكل شعرة على جسده حسنة ويخلق الله من كل قطرة تقطر منه ملكا يسبح الله تعالى إلى يوم القيامة وأجرى تسبيحه له ومن صبر على أذى الناس كف الله عنه أذى جهنم ودخولها ))
فمن أراد أن يكون من الصابرين فلا يغفل عن ذكر الله وأن يصبر على الطاعات وأداء الفرائض وان يصبر على المصائب ليكون ممن قال فيهم رب العزة :
{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ }الزمر10
وهم الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إذا كان يوم القيامة ينادى منادى من له على الله دين ؟ فتقول الخلائق ومن ذا الذي له على الله دين ؟ فتقول الملائكة من ابتلى بما يحزن قلبه ويبكى عينه فصبر احتسابا لله سبحانه وتعالى فليقم يأخذ أجره من إلهه في هذا اليوم فتقوم خلائق كثيرة من أهل البلاء فتقول الملائكة ليست الدعوة بلا بينة ارونا صحائفكم ؟ فينظرون في صحائفهم فمن وجد في صحيفته سخط أو كلاما فاحشا يقولون له اقعد فما أنت من الصابرين كذلك إذا وجدوا في صحيفة المرأة سخطا يردونها من بينهم وتأخذ الملائكة الصابرين من الرجال والنساء حتى يوصلوهم إلى تحت العرش فيقولون ربنا هؤلاء عبادك الصابرين فيقول الله عز وجل ردوهم إلى شجرة البلوى فيردونهم إلى شجرة أصلها ذهب وأوراقها حلل وظلها يسير الراكب
4
فيه مائة عام فيجلسون تحت ظلها ويتجلى عليهم الحق سبحانه وتعالى واحدا بعد واحد وواحدة بعد واحدة يقول ياعبادى الصابرين إنما ابتليتكم لا لهوانكم علـى بل لكرامتكم عندي وقد أردت أن أحط عنكم بالبلاء في دار الدنيا ذنوبكم وأوزاركم وأبلغكم درجات عالية في ما كنتم تصلوا إليها بأعمالكم فصبرتم لأجلى واستجبتم لي ولم تسخطوا على قضائي فاليوم استحى منكم لا انصب لكم ميزانا ولا انشر لكم ديوانا وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ، ثم يقول للفقراء ياعبادى الفقراء إني ما ابتليتكم بالفقر لهوانكم علـى ولعزة الدنيا عندي ولكن قضيت إن من ملك شيئا في الدنيا أحاسبه عليه واسأله من اين اكتسبه وفى أي شئ اخرجه فأحببت لكم الفقر ليخفف عنكم حسابكم وتستوفوا نصيبكم موفورا فمن كان قد سقاكـم فى دار الدنيا شربـة او اطعمكـم لقمـة أوكساكـم خرقة فهـو فى شفاعتــى ثم يتجه سبحانه وتعالى لأهل العمى والبرص والجزام وسائر الامراض فيفرحون غاية الفرح بما حصل لهم من الاجرة ثم يعقد لهم رايات الأمراء فمن صبر على بلية ثلاثة أنواع من البلاء نصبت له ثلاث رايات ومن ابتلى بأكثر نصب له اكثر تأخذهم الملائكة ركابا على النجائب والرايات بين ايديهم سائرين الى الجنة فينظر الناس اليهم ويقولون هؤلاء الشهداء والانبياء فتقول لهم الملائكة والله ليس هؤلاء شهداء ولا انبياء ولكن هؤلاء قوم من عوام الناس قد صبروا على شدائد الدنيا فنجوا فى هذا اليوم فاذا وصلوا الى باب الجنة قرعوا بابها فيجئ رضوان فيقول من هذا ؟ فتقول الملائكة لرضوان افتح فيقول فى اى وقت حوسبوا هؤلاء وخلصوا وبعض الناس نيام فى التراب ، إلى الآن مانشر الحق عز وجل ديوانا ولا نصب ميزانا فتقول الملائكة هؤلاء الصابرون ليس عليهم حساب افتح لهم يارضوان ابواب الجنات ليقعدوا فى قصورها آمنين فعند ذلك يفتح لهم رضوان الجنة فيدخلون إلى منازلهم فتلقاهم الخدم بالفرح والسرور والتهليل والتكبير فيجلسون على شرف الجنة خمسمائة عام يتفرجون على حساب الخلائق حتى يفرغوا من الحساب فطوبى للصابرين )) .
5
وإذا كان الصبر من الشكر فان الشكر نوعان : شكر عام وشكر خاص فأما الشكر العام فهو الحمد باللسان وان يعترف المرء بالنعمة من الله تعالى ، وأما الشكر الخاص فالحمد باللسان والمعرفة بالقلب وحفظ اللسان وسائر الجوارح عما لايحـــل .
وقرن الله سبحانه وتعالى الشكر بالذكر فقال :
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }البقرة152
وقال أيضا : { وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ }آل عمران145
وقال كذلك : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } إبراهيم7
لقد جعل الله الشكر مفتاح كلام أهل الجنة فقال تعالى :
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ }الزمر74
وقال جل وعلا : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }يونس10
وروى إن موسى عليه السلام قال لربه : يارب كيف استطاع آدم أن يؤدى شكر ما صنعت إليه ؟ خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسكنته جنتك وأمرت الملائكة فسجدوا له ؟ قال يا موسى :
((علـم آدم أن ذلك منى فحمدني عليه
فكان ذلك شكرا لما صنعت إليه ))
وعن قتاده إن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( أربع من أعطيهن فقد أعطى خيري الدنيا والآخرة لسان ذاكر وقلب شاكر وبدن صابر
وزوجة مؤمنة صالحة ))
ومن د عاء داوود عليه السلام :
(( اللهم إني أسألك أربعة وأعوذ بك من أربعة : أما اللواتى أسألك : فلسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وبدنا صابرا وزوجة تعيننى فى دنياى وآخرتى ، وأما اللواتى أعوذ بك منهن : فأعوذبك من ولد يكون على سيدا ومن امرأة تشيبنى قبل وقت المشيب ومن مال يكون وبالا على ومن جار لو رأى منى حسنة كتمها ولو رأى منى سيئة فشاها ))
وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال :
(( ما أنعم الله على عبد من نعمة صغرت أو كبرت فقال الحمد لله إلا كان قد أعطى أفضل مما أخذ ))
إن الحمد والشكر عبادة الأولين والآخرين وعبادة الملائكة وعبادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعبادة أهل الأرض وعبادة أهل الجنة ، فأما عبادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهو أن آدم عليه السلام لما عطس قـال :
6
الحمد لله ، وان نوحا عليه السلام لما أغرق الله قومه وأنجاه ومن معه من المؤمنين أمره الله تعالى بأن يحمده فقال له :
{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }المؤمنون28
وقال إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام :
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء }إبراهيم39
وقال داوود وسليمان عليهما السلام :
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ }النمل 15
وان أهل الجنة يحمدون الله تعالى فى ستة مواضع :
أحدها عند قوله تعالى : {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ }يس59
فإذا امتازوا يقولون :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }المؤمنون28
والثانى حين جاوزوا الصراط قالوا :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }فاطر34
والثالث لما اغتسلوا بماء الحياة نظروا الى الجنة فقالوا :
{ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا
وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ }الأعراف43
والرابع حين دخلوها قالوا :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }الزمر74
والخامس حين استقروا منازلهم قالوا :
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ
لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }فاطر34 ـ 35
والسادس حين فرغوا من الطعام قالوا: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الفاتحة2
قال ابن مسعود الشكر نصف الإيمان وان الشكر يتعلق بالقلب واللسان وبالجوارح أما بالقلب فقصد الخير وإضماره لكافة الخلق وأما باللسان فإظهار الشكر لله تعالى بالتحميدات الدالة عليه واما بالجوارح فاستعمال نعم الله تعالى فى طاعته والتوقى من الاستعانة بها على معصيته حتى إن شكر العين أن تستر كل عيب تراه لمسلم وشكر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه فيه فيدخل هذا فى جملة شكر نعم الله تعالى بهذه الأعضاء والشكر باللسان لإظهار الرضى عن الله تعالى فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل :
7
(( كيف أصبحت فقال بخير فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم السؤال حتى قال فى الثالثة بخير احمد الله واشكره فقال صلى الله عليه وسلم هذا الذي أردت منك))
وروى عنه صلى الله عليه وسلم انه قال :
(( ينادى يوم القيامة ليقم الحمادون فتقوم زمرة فينصب
لهم لواء فيدخلون الجنة قيل ومن الحمادون قال الذين
يشكرون الله تعالى على كل حال وفى لفظ آخر الذين
يشكرون الله على السراء والضراء ))
اللهم اجعلنا من الصابرين الحامدين الشاكرين وارزقنا فى الآخرة
شفاعة سيد الأولين والآخرين
اللهم اجعلنا ممن يردون حوضه يوم الدين واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها لأبـــد الآبديـــن
وصلى اللهم وبارك على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
راجى عفو رب العالمين
أخوكم فى الله
الشيخ محمود حسين