اللهم لك الحمد فى البدء ولك الحمد فى المنتهى
وبين البدء والمنتهى صراط نسألك أن يكون مستقيما يبلغنا مرضاتك
ويدخلنا بين المتقين جناتك
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن سيدنا
محمد بن عبد الله رسول الله ومصطفاه صلوات ربى وسلامه عليه
وعلى آله الطاهرين وصحبه الغر الميامين
مما لاشك فيه أن الحديث عن الدار الآخرة وهى من الغيبيات ، أمر يتطلب منا إيمان صادق ، فالإيمان هو سمة أصحاب العقول النيرة التي منّ الله عليها بالإيمان ثم بالإسلام ، والإيمان هو بذرة في القلب تؤتى ثمارها إذا أسلم المرء وجهه لله ، فالإيمان هو دعامة يقوم عليها الإسلام ويبين ذلك مما رواه مسلم في صحيحة من حديث عن ابن بريدة ، عن يحيى بن يعمر عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال:
(( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب. شديد سواد الشعر. لا يرى عليه أثر السفر. ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فاسند ركبتيه إلى ركبتيه. ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتقيم الصلاة. وتؤتي الزكاة. وتصوم رمضان. وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلا" قال: صدقت. قال فعجبنا له. يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: "أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه، فإنه يراك". قال: فأخبرني عن الساعة. قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال: فأخبرني عن أمارتها. قال: "أن تلد الأمة ربتها. وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان". قال ثم انطلق. فلبثت مليا. ثم قال لي: "يا عمر! أتدري من السائل؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )).
إذن فالإيمان باليوم الآخر أو بالدار الآخرة ركن من أركان الإيمان بالله جل وعلا كما هو فى حديث جبريل عليه السلام الذى رواه مسلم وغيره حين سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن أركان الإيمان فقال الحبيب المصطفى :
(( الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره))
قال جبريل عيه السلام : ( صدقت ) ))
فلا يمكن لمؤمن على الإطلاق أن يؤمن باليوم الآخر إلا إذا عرف أحوال وأهوال ذلك اليوم ووقف على هذا العلم الذى لا يمكن أن يتلقاه إلا من خلال دراستة لكتاب الله وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم
وإذا أردنا أحبائى فى الله .. أن نبدأ حديثنا عن الدار الآخرة أو بمعنى آخر عن اليوم الآخر ، فلا بد لنا أولا من فهم حقيقة الإيمان بذلك اليوم وكيف هى عقيدة المسلم المؤيدة لذلك الإيمان ، فالمسلم لا يكون مسلما إلا إذا كان مؤمنا فالإسلام .. هو أن تسلم وجهك لله تعالى وتنقاد له ولتعاليمه وتطيعه وتطيع أوامره وتتجنب نواهيه فإنك أخى المسلم إن لم تكن تؤمن بالله فكيف تسلم وجهك له وتخافه وتعمل بمـا أنـــزل .
أخرج الإمام أحمد والترمذى والنسائى من حديث العرباض بن ساريه رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال :
(( ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتى الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا ، وداع يدعو من جوف الصراط ، فإذا أراد أحد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه ـ أى تدخله ـ والصراط الإسلام ، والسوران حدود الله عز وجل ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعى على رأس الصراط كتاب الله ، والداعى من جوف الصراط واعظ الله فى قلب كل مسلم )) وزاد الإمام الترمذى (( والله يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم )) .
وهذا المثل الذى ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد به أن يخبرنا أن الإسلام هو الصراط المستقيم الذى أمر الله بالاستقامة عليه ونهى عن مجاوزة حدوده .
أما الإيمان أحبائي فى الله .. فهو عقيدة المسلم التى حدد الله مبناها فى كتابه الكريم حيث قال :
(( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون ))
آل عمران 84
كما بين جل وعلا أصول ذلك الإيمان فى قوله سبحانه وتعالى :
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ }البقرة285
وقد فسر لنا الحبيب معنى الإيمان على نحو ما جاء بالحديث : (( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ـ أى البعث بعد الموت ـ وتؤمن بالقدر خيره وشره )) ، ثم بين لنا رسوله الكريم فى سنته المطهرة أن الإيمان فى ستة مواضع هـى :
أولهـا : الإيمان بالله إلها واحدا لا شريك له .
وثانيها : هى الإيمان بأن محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وثالثها : الإيمان بكتاب الذى انزل عليه صلى الله عليه وسلم وبأنبياء الله
ورسله السابقين على بعثته صلى الله عليه وسلم وبكافة الكتـب
السابقة التى أنزلت على أنبياء الله من قبل .
ورابعها : الإيمان بالملائكة
وخامسها الإيمان باليوم الآخر
وسادسها : الإيمان بالقدر خيره وشره .
وهذه الأمور الستة هى أصول العقيدة الصحيحة التى نزل بها كتاب الله العزيز وبعث الله بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ويتفرع منها كل ما يجب الإيمان به من أمور الغيب وجميع ما اخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم وأدلة ذلك في قول الله سبحانه وتعالى:
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ
وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)) النساء 136
أما الأحاديث الصحيحة الدالة على هذه الأصول فكثيرة جدا إلا أن أشهرها ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الإيمان :
(( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ))
من هنا أحبائى فى الله .. فإذا أردنا الحديث عن اليوم الآخر فلا بد لنا أولا من بيان وإيضاح لأوجه الإيمان الستة على نحو ما ورد بكتاب الله وما ورد بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أحاديثه الشريفة .
ولنتعرف أولا عن : (( الإيمان بالله ))
فالإيمان بالله سبحانه وبأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون كل ما سواه فهو خالق العباد والمحسن إليهم والقائم بأرزاقهم والعالم بسرهم وعلانيتهم والقادر على إثابة مطيعهم وعقاب عاصيهم ولهذه العبادة خلق الله الثقلين وأمرهم بها فقال جل شأنه :
(( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ))
الذاريات 56و57و58
وقال كذلك : ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي
إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ))
أى أن حقيقة العبادة هى إفراد الله سبحانه وتعالى بجميع ما يتعبـد العباد به من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر والخضوع له رغبا ورهبا مع كمال الحب له سبحانه وتعالى والذل لعظمته مع الإخلاص التام قال تعالى فى ذلك : ((فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)) الزمر2و3
ومن الإيمان بالله الإيمان بجميع ما أوجبه على عباده وفرضه عليهم من أركان الإسلام الخمسة أهمهـا وأعظمهـا شهـادة أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله فشهادة أن لا اله إلا الله تقتضي إخلاص العبادة لله وحده ونفيها عمن سواه فكل ما عبد من دون الله فهو معبود بالباطل لقوله تعالى:
((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ
هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) الحج 62
ومن الإيمان بأن الله سبحانه هو الخالق المدبر لشئون الخلق المتصرف فيهم بعلمه وقدرته كما يشاء سبحانه وأنه مالك الدنيا والآخرة ورب العالمين جميعا لا خالق غيره ولا رب سواه فقد قال فى كتابه الكريم :
(( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ
تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) )" الأعراف 54
وقد سئل ربيعة بن أبى عبد الرحمن شيخ الإمام مالك رحمة الله عليهما عن الاستواء قال :
(( الاستواء غير مجهول والكيف معقول ومن الله الرسالة
وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق ))
وسأل رجل الإمام مالك عن معنى استواء الله على عرشه فقال:
(( الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان
به واجب والسؤال عنه بدعه ))
ثم قال للسائل ما أراك إلا رجل سوء وأمر به فخرج .
لكل ذلك .. فان الإيمان هو التصديق بكل ما جاء بكتاب الله دون محاولة للخوض فيما قد يؤدى بنا فى نهاية الأمر إلى حد الخروج عن الدين وعما أمرنا به الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم .
أما عن دلائل صدق الإيمان بالله تعالى :الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى الواردة فى كتابه الكريم والثابتة عن رسوله الأميـن صلى الله عليه وسلم من غيـر تحريـف ولا تبديل ، مع الإيمان بما دلت عليه من معان عظيمة تعبر عن أوصاف الله عز وجل التى لا يشابهه فيها أحد فهو سبحانه :
(( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير ُ))
فهو سبحانه لا يشبهه شئ من خلقه وليس كمثله شئ وهو السميع البصير فقد روى الحافظ بن كثير قال : قال نعيم بن حماد الخزاعى شيخ الإمام البخاري : (( من شبه الله بخلقه كفر ، ومن جحـد ما وصف الله به نفسه
فقد كفـر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه
فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار
الصحيحة على الوجه الذى يليق بجلال الله ونفى
عن الله تعالى النقائض فقد سلك سبيل الهدى ))
هذا أيها الاخوة الأحباب عن الإيمان بالله وللحديث بقية .