الحمد لله ولى من كان تقيا
واصلي وأسلم على من قربه ربه نجيا وكان به حفيا
وعلى أله الطاهرين وصحابته الغر الميامين
الذين رضوا عن ربهم فكان عنهم راضيا مرضيا
أحبتي في الله ... تلك هي الحلقة العشرون من حلقات السلسة المباركة عن الدار الآخرة ونستكمل فيها الحديث عن الجنة ، فكما وعد الله تعالى عباده المتقين بالجنة فقد وعدهم في تلك الجنة غرفا من فوقها غرف قال ر ب العزة جل شأنه الزمر 20
(( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَاد ))
وقد وعد عباده والتائبين الذين يعملون الصالحات بتلك الغرف فقال :
(( إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا
وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ )) سبأ 37
كما وعد عباده الصابرين كذلك بتلك الغرف فقال الفرقان 75 :
(( أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ))
فما هي أحبائي في الله تلك الغرف تعالوا بنا نتعرف عليها من معلم البشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى الترمذي عن على بن أبى طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها
وبطونها من ظهورها ))
فقام إليه أعرابي فقال : لمن هى يا رسول الله ؟ قال :
(( لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام
وصلى لله بالليل والناس نيام ))
فمن فعل ذلك كله كان من أهل الغرف ، ولكن هل يستطيع أحدنا أن يديم إطعام الطعام أو يديم الصيام ؟ نقول نعم فقد روى أبو سعيد الخدرى قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( ألا أحدثكم بغرف الجنة
قال : قلت بلى يا رسول الله صلى الله عليك بأبينا أنت وأمنا
قال : إن فى الجنة غرفا من أصناف الجوهر وكله يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها وفيها من النعيم واللذات والسرور مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال : قلت يا رسول الله : لمن هذه الغرف
قال : لمن أفشى السلام وأطعم الطعام وأدام الصيام
وصلى باليل والناس نيام .
قال : قلنا يا رسول الله ومن يطيق ذلك
قال : أمتى تطيق ذلك وسأخبركم عن ذلك ، من لقى أخاه فسلم عليه فقد أفشى السلام ومن أطعم أهله وعياله من الطعام حتى يشبعهم فقد أطعم الطعام ومن صام شهر رمضان ومن كل شهر ثلاثة أيام فقد أدام الصيام ومن صلى العشاء الآخرة وصلى الغداة ـ أي صلاة الفجر ـ فى جماعة فقد صلى بالليل والناس نيام ))
والحديث رواه ابن السماك فى الفوائد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه سلم وأورده ابن كثير فى كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح .
ومن أهل هذه الغرف أهل الأسقام والأوجاع فى الدنيا فقد روى انس بن مالك رضى الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إن فى الجنة لغرفا ليس لها مغاليق
من فوقها ولا عماد من تحتها ))
( أي غرف معلقة فى الهواء لا سقف لها ولا أعمدة )
قيل يا رسول الله ، وكيف يدخلها أهلها ؟
قال :(( يدخلونها أشباه الطير ))
قيل : هى يارسول الله لمن ؟
قال :(( لأهل الأسقام والأوجاع والبلوى ))
فكل من اشتكى فى الدنيا مرضا مزمنا أوجعا أو أبتلى بمصيبة فى دنياه فهو باذن الله تعالى من أهل تلك الغرف إذا ما كان صابرا مسترجعا .
وروى مسلم في صحيحه عن الإمام مالك بن أنس عن أبى سعيد الخدرى قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق منالمشرق أو المغرب لتفاضل بينهم))
قالوا يا رسول الله : تلك منازل الأنبياء لا يبلغها إلا غيرهم ، قال :
(( بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله
وصدقوا المرسلين ))
فأهل تلك الغرف يراهم أهل الجنة فى غرفهم المعلقة كأنهم الكواكب والنجوم فى السماء وهم الذين آمنوا وصدقوا المرسلين ؟.
وكما أن في الجنة غرفا ففيها كذلك منابر من نور فإن من أهل الجنة من يكونون يوم القيامة على منابر من نور ، فعن أنس رضى الله تعالى عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( ليؤتين برجال يوم القيامة ليسوا بأنبياء ولا شهداء
تغبطهم الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله ،
يكونون على منابر من نور ))
قالوا : ومن هم يارسول الله ؟
قال :(( هم الذين يحببون الله إلى الناس ))
قالوا : فكيف يحببون الله إلى الناس ؟
قال : (( يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر
فإذا أطاعوهم أحبهم الله تعالى ))
أسأل الله العلى القدير كما قدر لنا بمنه وكرمه أن نرتقي المنابر في الدنيا لنأمربالمعروف وننهى عن المنكر أن يرزقنا ارتقاء منابر النور فى الآخرة إنه سبحانه ولى ذلك والقادر عليه .
والجنة أحبائي في الله .. خلاف الدنيا فليس فيها كراهية ولا حقد ولا بغضاء
بل هي دار نعيم فأهلها حجب الله عنهم كل تلك الصفات فقال الحجر47 :
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ }
وقال رب العزة جل وعلا :
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ}الأعراف 43فيحمدون ربهم على ذلك قال جل وعلا:
{ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } الأعراف 43
فينادى عليهم بأن ذلك جزاء ما عملوا صالحا فى حياتهم الدنيا قال رب العزة جل وعلا : { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}الأعراف 43
أحبتي في الله ...
هذه هي الجنة التي أعد الله لعباده المتقين فمن أراد أن تكون الجنة نهاية مطافه فلابد له من التحلى بصفات أهل الجنة فى الدنيا وأول هذه الصفات التى يجب توافرها فيمن يدخل الجنة وهى الصفة الأساسية هى صفة الإيمان بالله الواحد القهار،ولا يكون الإيمان إلا بالإسلام بان يسلم المرء وجهـه لله تعالى ودلالة ذلك شهادة أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله ، وقد ورد :
(( أن رجلا كان واقفا بعرفات وفى يده سبعة أحجار فقال اشهدوا عنى عند ربنا بأني اشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله فنام فرأى في المنام كان القيامة قد قامت وانه حوسب فوجبت له النار فأخذته الملائكة فلما ذهبوا به إلى باب النار إذا بحجر من تلك الأحجار السبعة ألقى بنفسه على باب النار فاجتمعت ملائكة العذاب لرفعه فلم يطيقوا فسيق إلى باب آخر فإذا عليه حجرا آخر من تلك الأحجار السبعة لم تقدر الملائكة على رفعه حتى سيق إلى
سبعة أبواب النار فكان على كل باب حجر من تلك الأحجار السبعة فسيق به إلى تحت العرش وقالت الملائكة ربنا أنت تعلم بأمر عبدك ونحن لا نجد له سبيلا إلى النار فقال المولى تبارك وتعالى : عبدى أشهدت الأحجار فلم تضيع حقك فكيف أضيع أنا حقك وأنا شاهد بشهادتك وقال تعالى : ادخلوه الجنة فلما قرب باب الجنات إذ بأبوابها مغلقة فجاءت شهادته أن لا اله إلا الله وفتحت الأبواب كلها فدخل الرجل )) .
تلك هي شهادة الإسلام ومفتاح باب الجنة ، بل وهى أحسن الحسنات فقد روى أن أبا ذر الغفارى رضى الله عنه قال :
(( يا رسول الله علمني عملا يقربني إلى الجنة ويبعدنى عن النار قال : إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة
قال : قلت يارسول الله : أمن الحسنات قول لا إله إلا الله
فقال : نعم هى أحسن الحسنات ))
فاجعلوها عباد الله فى تسبيحاتكم لتزيد حسناتكم وتقربكم من جنة ربكم
(( لا اله إلا الله محمد رسول الله ))
أما عن وصف أهل الجنة فقد روىروى الأعمش عن أبى صالح وابن حبان فى كتاب الزهد عن أبى زرعة عن أبى هريرة رضي الله تعالى عنه قال : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ،
ثم الذين يلونهم على صورة أشد نجم في السماء إضاءة ،
ثم هم بعد ذلك على منازل لا يبولون ولايتغوطون ولا يبزقون
ولا يتمخضون، أمشاطهم الذهب ومجامرهم الألوة
( أي العود ) ورشحهم المسك وأخلاقهم على خلق رجل واحد ، على طول أبيهم آدم ستون ذراعا ))
وقال بن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إن أهل الجنة شبان جرد مرد ليس لهم شعر إلا في الرأس والحاجبين وأهداب العينين أي ليس لهم شعر عانة ولا شعر إبط ، طول آدم ستون ذراعا ، على مولد عيسى ابن مريم ثلاثة وثلاثين سنة ، بيض الألوان خضر الثياب يضع أحدهم مائدة بين يديه فيقبل طائر فيقول يا ولىَ الله أما إني قد شربت من عين السلسبيل ورعيت من رياض الجنة تحت العرش وأكلت من ثمار كذا طعم أحد الجانبين مطبوخ والجانب الآخر مشوى ، فيأكل منها ما شاء ، وعلى الولي سبعون حلة ليس فيها حلة إلا على لون أخر ، في أصابعهم عشرة خواتيم مكتوب في الأول{سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } وفى الثاني {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ } وفى الثالث { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }وفى الرابع : رفعت عنتكم الأحزان والهموم وفى الخامس : ألبسناكم الحلي والحلل وفى السادس : زوجناكم الحور العين وفى السابع : (( فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون )) وفى السابع : وافقتم النبيين والصديقين وفى التاسع : صرتم شبابا لا تهرمون وفى العاشر : سكنتم في جوار من لا يؤذى الجيران )) .
وروى الترمذى عن معاذ بن جبل عن النبى صلى الله عليه وسلم قال :
(( يدخل أهل الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين ))
وروى أبو بكر بن أبى داود عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( يبعث أهل الجنة على صورة آدم فى ميلاد ثلاث وثلاثين سنة ، جردا مردا مكحلين ، ثم يذهب بهم إلى شجرة فى الجنة ، فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم ))
قال أحد الصالحين من أراد أن ينال هذه الكرامات فعليه أن يداوم على خمسة أشياء : أولها أن يمنع نفسه من جميع المعاصي قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }النازعات40والثانى : أن يرضى باليسير من الدنيا لأنه روى في الخبر ( أن ثمن الجنة ترك الدنيا ) والثالث : أن يكون حريصا على الطاعات فيتعلق بكل طاعة فلعل تلك الطاعة تكون سببا للمغفرة ووجوب الجنة ، قال تعالى: { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }الزخرف72 وفى آية أخرى قال : { جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }السجدة17 وإنما ينالون ما ينالون بالاجتهاد والطاعات والرابع : أن يحب الصالحين وأهل الخير ويخالطهم ويجالسهم فان واحدا منهم إذا غفر له يشفع لأصحابه وإخوانه كما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( أكثروا الإخوان فإن لكل أخ شفاعة يوم القيامة )) والخامس : أن يكثر من الدعاء ويسأل الله تعالى أن يرزقه الجنة وأن يجعل خاتمته إلى خير .
كما أن أهل الجنة يزيدهم الله فرحا وسرورا فيباهون بما وعدهم الله ونالوه من فضل دخول الجنة وينادون أهل النار ليخبرونهم بصدق ما وعدهم ربهم ولكن ذلك يكون من وراء حجاب يمنع أهل النار من الوصول إلى الجنة قال رب العزة جل وعلا :
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ * وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }الأعراف44 ـ47
فاتقوا الله عباد الله وليحذر كل منا من الوقوع في المعاصي والموبقات وليتق كل منا ربه فتكون الجنة له مستقرا ومتاعا .
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى...
