الحمد لله ولى الأمر والتدبير واليه المرجع والمصير
وأصلى وأسلم على المبعوث رحمة للعاملين
ثم أما بعد : وبعد أن أوضحنا فى الحلقة السابقة ضرورة الإيمان باليوم الآخر ، نواصل الحديث بالحديث عن الموت ، يقول جل وعلا: { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ }النساء78
وقبل أن الخوض فى الحديث عن الموت لنتعرف أولا على حقيقة الموت فقد انقسم الناس قسمان فى فهم حقيقة الموت فظن البعض أن الموت هو العـدم وأنه لا حشر ولا نشر ، وأن الميت فى قبره لا يتنعم بثواب ولا يتألم بالعقاب ، وظن آخرون : أن الروح باقية لا تنعدم بالموت وإنما يفنى الجسد ولا يبعث ولا يحشر .
وكل هذه ظنون فاسدة مائلة عن الحق فالذى تشهد وتنطق به الآيات والأخبار أن الموت هو تغير من حال إلى حال وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد إما منعمة فى الجنة أو معذبة فى النار.
أما عن كون الموت تغير من حال إلى حال فذلك من جهتين ، احداهما : أن الميت تسلب منه عيناه وأذنـاه ، ولسانه ويداه ورجلاه ، وجميع أعضائه ويسلب منه أهله وولده وأقاربه وسائر معارفه ويسلب منه خيله ودوابه وغلمانه ودوره وعقاره وسائر أملاكه وأمواله ، ولا فرق بين أن تسلب هذه الأشياء من الإنسان وبين أن يسلب الإنسان من هذه الأشياء ، ولكن المؤلم هو الفراق ، فإن كان له فى الدنيا شئ يأنس به ويستريح إليه ويعتد بوجوده فيعظم بعد الموت تحسره عليه ويصعب شقاؤه فى مفارقته ، وإن لم يكن يفرح إلا بذكر الله ولم يأنس إلا به عظم نعيمه وتمت سعادته ، إذ خلى بينه وبين محبوبة وقطعت عنه العوائق والشواغل إذ أن جميع أسباب الدنيا شاغلة عن ذكر الله ، وهذا هو الفرق بين حال الموت وحال الحياة . لذلك فإن الموت تغير من حال إلى حال .
أما الوجهة الثانية : أنه ينكشف للميت بالموت ما لم يكن مكشوفا فى الحياه ، وأول ما يتكشف له ما يضره وينفعه من حسناته وسيئاته ، فلا ينظر إلى سيئة إلا ويتحسر عليها ولا ينظر إلى حسنة إلا ويفرح بها . وينكشف للمؤمن عقيب الموت من سعة جلال الله أن الدنيا بالنسبة إليه كالسجن الضيـق .
وهذا ما قالهالحبيب الذى لا ينطق عن الهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى قال : (( تحفة المؤمن الموت )) لأن الدنيا سجن المؤمن إذ لا يزال فيها فى عناء مقاساة نفسه وشهواته ومدافعة شيطانه فالموت إطلاق له من هذا العذاب ، لذلك قيل أن ملك الموت حين ينزل ليجذب روح المؤمن من جسده يناديها رب العزة جل شأنه : يا أيتها النفس المطمئنة فتخرج طائرة من حلاوة الخطاب فلا تزال طائرة إلى يوم القيامة فيقال لها : ارجعى إلى ربك : أى إلى جسدك ، فتفرح بالجسد ويفرح الجسد بها فتقول أنا ماقر لى قرار ، ويقول الجسد : أنا أكلنى الدود والتراب ، فينادي مناد : ليس بعد هذا الاجتماع فراق : ويأتى ملك للجسد فيقول : أبشر كلما اندرست عظامك محيت آثامك ، لذلك فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
( الموت كفارة لكل مسلم )) .
وليس لإنسان مهرب ولا منجى من الموت فهو مصير كل المخلوقات ولكن هل آمن وأيقن كل منا أن للموت سكرات ، وهل عمل كل منا من العمل ما ينجيه من سكرات الموت ؟ وهل اعد كل منا عدته لهذا اليوم ؟ وهل عمل كل منا من الأعمال ما ينجيه من القبر وعذابه ؟ ماذا قدمنا ؟ وبماذا استعددنا للموت وسكرتهوالقبر وضمته والصراط وزلته ويوم القيامة وروعته ؟ هذه أسئلة من كثير ولا يجيبنا عليها إلا الصادق الأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعالوا بنا نعيش مع الحبيب فى ذكر هازم اللذات نسأل الله أن يقينا سكراته وينجينا من هوله عند الممات كما نسأله النجاة فى القبر وعند البعث ويوم الحشر فهو سبحانه ولى ذلك والقادر عليه ، يقول جل وعلا فى محكم التنزيل :
{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }ق19
روى البخاري عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتى وذاقنتى وكان بين يديه ركوة ماء ، كان يمد يده فى داخل الماء ويمسح وجهه بأبى هو وأمى ويقول : (( لا اله إلا الله إن للموت سكرات ))
وعند السكرات تكون فتن الموت ، يأتى الشيطان إلى ابن آدم وهو فى فراش الموت ليضله عن لا اله إلا الله فيقول له مت يهوديا فهو خير الأديان أو يقول مت نصرانيا فإنه خير الأديان ، وقد استدل بعض أهل العلم على صحة ذلك بحديث صحيح رواه الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الشيطان يحضر كل شئ لابن آدم )) حتى الموت يحضره الشيطان .
قال شيخ الإسلام بن تيميه فى فتواه حين سئل عن مسألة عرض الأديان على العبد فى فراش الموت فقال : (( من الناس من تعرض عليه الأديان ومنهم من لا يعرض عليه شئ قبل موته ، ثم قال : ولكنها من الفتن التى أمرنا النبى صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ منها كما فى قوله (( اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال )) فمن فتن الموت أن تأتى الشياطين لتصد العبد عن لا اله الا الله وتلك من أشد كربات السكرات على ابن آدم .
ولقد أخبر الحبيب صلوات الله وسلامه عليه عن حال الميت عند الاحتضار فقال فى حديث رواه أبو هريرة انه قال :
(( إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر الريحان فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين ويقال : أيتها النفس المطمئنة اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح الله وكرامته
فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك والريحان وطويت عليها الحريرة وبعث بها إلى عليين .
وأن الكافر إذا احتضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه إنتزاعا شديدا ويقال : أيتها النفس الخبيثة أخرجى ساخطة ومسخوطا عليك إلى هوان الله وعذابه ، فإذا أخرجت روحه وضعت على تلك الجمرة وأن لها فشيشا ، يطوى عليها المسح ويذهب بها إلى سجين )) ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
فما حالنا ونحن المنهمكون فى المعاصى ، ماذا لو علمنا أن هذا هو حال الكافر فكيف هو حال العاصى وماذا لو علم العصاة أن لسكرات الموت دواهى ثلاث ، نعم إن للموت دواه ثلاث أخبر بها الحبيب الصادق المصدوق :
وأول تلك الدواهى: شدة النزع التى قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إن أهون الموت بمنزلة حسكة فى صوف
فهل تخرج الحسكة من الصوف إلا ومعها صوف ))
والحسكة مثل عود به شوك ولك أن تتخيل أخى المسلم مدى الألم الذي يحدثه ذلك الشوك إذا تم جذبه و كان خارجا من جسد ابن آدم ينتزع من لحمه انتزاعا.
أما الداهية الثانية هى رؤية ملك الموت ودخول الروع والخوف منه على القلب فلورأى صورته التى يقبض عليها روح العبد المذنب أعظم الرجال لم يطق رؤيتهفهذه داهية يلقاها العصاة ويكفاها المطيعون ، فان المطيعون يرون ملك الموت فى أحسن صورة وأجملها .
أما الداهية الثالثة مشاهدة العصاة مواضعهم من الناروخوفهم قبل المشاهدة فانهم فى حال السكرات قد تخاذلت قواهم واستسلمت للخروج أرواحهم ، ولن تخرج أرواحهم مالم يسمعوا نغمة ملك الموت بإحدى البشرتين إما :
(( أبشر يا عدو الله بالنار أو أبشر يا ولى الله بالجنة ))
يقول جل وعلا :
{لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } ق22
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( لن يخرج أحدكم من الدنيا حتى يعلم أين
مصيره وحتى يرى مقعده من الجنة أو النار ))
نسأل الله العلى القدير أن يهون علينا سكرات الموت وأن يرينا مقاعدنا من الجنة بفضلـه لا بعدلـه ، فإن العبد بعد مقاساته للموت وسكراته وما يعترضه من فتن خلال تلك السكرات تشيع جنازته إلى القبر ، روى البخارى فى صحيحه قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثنا الليث، عن سعيد المقبري ، عن أبيه: أنه سمع أبا سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا وضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني ، وإن كانت غيـــر صالحة قالت: يا ويلها، أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه صعق ) .
فإذا أردنا أن تكون جنازاتنا صالحة فعلينا اغتنام فرصة الشباب والقدرة على الإتيان بالطاعات قبل الهرم وعدم القدرة .