الحمد لله ولى الأمر والتدبير واليه المرجع والمصير
وأصلى وأسلم على المبعوث رحمة للعاملين
ثم أما بعد :
كنا قد انتهينا فى الحلقة السابقة الى أننا بالموت تنتهى حياتنا الدنيا وتوارى أجسادنا التراب فى قبور مظلمة ، ووصلا بما سبق نواصل حديثنا عن الدار الآخرة بالحديث عن القبر وسؤال الملكين ، ذلك القبر الذى هو أول منازل الآخرة وهذا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم فقد روى أن عثمان بن عفان رضى الله عنه : وقف على قبر فبكى فقيل له إنك تذكر الجنة والنار ولا تبكى وتبكى من هذا ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه ويسلم قال : (( القبر أول منزل من منازل الآخرةفإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منهوإن لم ينج منه فما بعده اشد منه ))
فإن العبد إذا مات يكونَ فى نعيمٍ دائمٍ أو عذابٍ مقيم وأن ذلك يحصُل لروحِـه وبدنـِه ، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة ، وأنها تتصل بالبدن ويحصل له معها دوام النعيم أو العذاب المقيم ، ثم إذا كان يوم القيامة أعيدت الأرواح إلى الأجسـاد وقامـوا من قبورهـم لرب الخلق والعباد .
فالقبرُ إما روضةٌ من رياضِ الجنةِ أو حفرةً من حُفـرِ النيران وقد ذكر الله أحكام الأرواح عند الموت فقال جل وعلا فى كتابه العزيز :
{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ *وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * َنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ *فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * َوَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ*َ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }الواقعة83 ـ 96
وإذ كان الحديث عما يدور فى القبر غيبٌ فليسلمخلوقٍ ما كان أن يتحدث عن ذلك الغيب ومن ثم فليس لنا أن نتحدث عن ذلك الغيب إلا من خلال ما أخبر الحبيب الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أخرج أبو نعيم فى الحِلْيَه أنه صلوات الله وسلامه عليه قال :
(( يقول القبر حين يوضع فيه الميت : يابن آدم ما غرك
بى ، ألم تعلم أنى بيت الفتنة وبيت الظلمة وبيت الوحدة وبيت الدود ما غرك بى إذ كنت تمر بى فذاذا ـ أى يقدم رجلا ويؤخر أخرى ـ
فان كان مصلحا أجاب عنه مجيب للقبر فيقول : أرأيت إن كان يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكر ، فيقول : القبر إني إذا أتحول عليه
خُضراً ويعودُ جسدهُ نوراً أو تصعدُ روحَه إلى اللهِ تعالى ))
وفى القبر فِتَنَاً يُلاقيها الميتِ حين يغلقُ عليهِ قبرُه وأول ما يلاقيه ضمة القبـر ، فإن للقبر ضمةٌ أو ضغطةٌ لا ينجو منها أحد ، فمن عمل صالحا خفف الله عنه ضمة القبر ، يعقب ضمةَ القبـر سؤال الملكين قال وهيب بلغنا أنـه:
(( من ما من ميت يموت حتى يتراءى له ملكاه الكاتبان لعملهفان كان مطيعا قالا له : جزاك الله عنا خيرا فرب مجلسصدق أجلستنا وعمل صالح أحضرتنا ))
وان كان فاجرا والعياذ بالله
( قالا له : لا جزاك الله عنا خيرا فذلك مجلس سوء
أجلستنا وعمل غير صالح أحضرتنا وكلام قبيح أسمعتنافلا جزاك الله عنا خيرا ))
وعند السؤال تكون فتنة عظيمة فقد روى عن سفيان الثورى أنه قال : إذا سئل الميت : من ربك ؟ يتراءى له الشيطان فى صورة فيشير إلى نفسه ويقول : إنى أنا ربُك ، قال أبو عبد الله : فهذه فتنة عظيمة ، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو للميت بالثبات فيقول :
(( اللهم ثبِّت عند المسألةِ منْطِقَهُ ، وافتح أبواب السماء لِرُوحِه ))
فلو لم يكن للشيطان هناك سبيل ما كان ليدعو له رسول الله صلى الله عليه وسلمأن يجيره من الشيطان وقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال :
(( إن الشيطان يحضر كل شئ لابن آدم )) .
والأحاديث الواردة فى سؤال الملكين كثيرة منها ما رواه البخارى عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين أنه حدثهم ، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال:
((إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان، فيقعدانه فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله،فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا )) .
قال قتادة وذكر لنا: أنه يفسح في قبره، ثم رجع إلى حديث أنس، فقــال: (وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديث ضربة، فيصيح صيحة، يسمعها من يليـه غير الثقلين).
وروى ابن حبان عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( أتدرون فيمن نزلت هذة الآية ؟ وتلا قول الله تعالـــى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }طه124وقال :أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : عذاب الكافر فى القبر ، والذى نفسى بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ، أتدرون ما التنين ؟ تسعــــــــــة
وتسعون حية لكل حية تسعة أرؤس ينفخن فى جسمه ، ويلسعنه ويخدشنه إلى يوم القيامة ويحشر من قبره إلى موقفه أعمــــــى )) . لا حـول ولا قـوة إلا بـالله .
فمن أراد أن ينجو من فتن القبر فعليه أن يتوب من الذنوب حتى ينال من الله التثبيت والإلهام بالإجابة عند السؤال فهما السبيل الى النجاة ، روى البراء بن عازب رضى الله تعالى أن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر عن نجاة العبدفقال :
(( إذا سئل المسلم فى القبر فيشهد أن لا اله إلا اللهوان محمدا عبده ورسوله ))
فذلك قوله جل شأنه: (( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِالدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))إبراهيم /27والتثبيت أحبائى فى الله يكون فى ثلاثة أحوال لمن كان مؤمنا مخلصا مطيعا لله تعالــى : (( أحدها : عند معاينة ملك
الموت حال الاحتضار ، والثاني :في القبرعند سؤال الملكين منكر ونكير ، والثالث :عند المحاسبة يوم القيامة .
وإذا أردنا الحديث عن عذاب القبر فقد تعددت أنواع العذاب تبعا لأنواع المعاصى فمنه ما يكون بسبب الغيبة والنميمة ومنه ما يكون بترك ما أمر الله من الطاعات والانغماس فى اللهو والشهوات والبعد عن فعل الخيرات والبخل عن إخراج الزكاة والصدقات وأكل مال الأرامل واليتامى والانكباب على جمع المال والدور والعقارات ، أورد البخارى فى الصحيح قال :حدثنا قُتَيبة: حدثنا جَرِير، عن الأعمش، عن مُجاهد، عن طاووس قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما ، مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال:
(إنهما ليعذبان، وما يعذبان من كبير). ثم قال: (بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما أحدهما فكان لا يستتر من بوله) ، قال: ثم أخذ عودا رطبا، فكسره باثنتين، ثم غرز كل واحد منهما على قبر، ثم قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) ، فنعوذ بالله العلى القديرمن القبر وعذابه
وهاهونبي الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلمكما في حديث البراء بن عازب ، أنه رأى أناسا مجتمعين فسأل عن سبب اجتماعهم، فقيـــل على قبر يحفرونه ففزع صلى الله عليه وسلم وذهب مسرعا حتى انتهى إلى القبر، ثم جثا على ركبته وبكى طويلا ثم أقبل على الناس وهو يقول:
(( يا إخواني لمثل هذا فأعدوا، يا إخواني لمثل هذا فأعدوا))
فهل أعددنا أنفسنا لتلك اللحود الضيقات، إنه القائل (صلى الله عليه وسلم) وكما في حديث أبي ذر:
(( إني أرى ما لا ترَُون، وأسْمَعُ ما لا تَسْمَعُون، أطَّتِ السماءُ وحقَّ لها أن تأِط ما فيها مَوّضِعُ أربعَ أصابِع إلا ومَلكٌ واضعٌ جبْهَتَهُ ساجد أو راكع، والله لو تعلمُون ما أعلم لضحكتُم قليلاً ولبَكَيِّتُم كثيراً، ولمَا تلذذتُم بالنساء على الفُرُش، ولخَرَجْتُم إلى الصَعَدَاتِ تَجّأرون إلى الله، (وفي رواية للمنذر)، ولحثوّتُم على رؤوسِكُم التُراب)).
والله لو علمنا حق العلم لقام أحدُنا حتى ينكسر صُلبُه، ولصاح حتى ينقطعَ صوتُه، والله إن الأمر جـد خطير .