الحمد لله الذى جعل سر عبادته فى الطاعة
وجعل التقوى للمتقين خير زاد وخير بضاعة
{ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة }
وأصلى وأسلم على صاحب المقام المحمود وحامل لواء الشفاعة
تلك هي الحلقة الخامسة من سلسلة الحديث عن الدار الآخرة وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق عند إغلاق القبر على الميت وملاقاته للملكين عند السؤال وما يلاقيه فيه من كربات وأهوال . وفى هذه الحلقة نستعرض بيانالعلامات الساعة وأشراطها ،ونبدؤها بالعلامات الصغرى.
فهذا الكون البديع النظام ، سيئول بجبروت الله إلى الانفطار والانفجار والدمار والاندثار ثم مصير البرايا إلى جنة أو نار ، { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }إبراهيم48 ، جعلنى الله وإياكم فى دار الأبرار .
روى البخارى قال :حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله عن أبيه عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله :
{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }لقمان34
قال الإمام القرطبي لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمسة لهذا الحديث وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو بهذه الخمس ، قال فمن ادعى علم شيء منها غير مسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كاذبا في دعواه .
وان كان الله جل وعلا قد أخفى زمن قيام الساعة فقد أخبر عن بعض علاماتها لينتبه الخلق بالإنابة والتوبة إلى الله .
وقد أخبر الله جلت حكمته عن قرب ذلك وبدوه ودنوه فقال جل وعلا :
{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ }الأنبياء1ـ2
وجعل الملك الديان لميقاتها أشراطا سابقة ودلالات وفتنا ممحصات ومحنا مبتليات يقول جل وعلا :
{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا
فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ }محمد18
وورد فى روايات أخرجها البخارى ومسلم والترمذى وابن ماجة رضى الله عنهم أحاديث عديدة عما ورد فى اقتراب الساعة وسرعة مجيئها وأكدها قوله جـل وعلا : { فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا } وقوله جل وعلا : { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}النحل77 وقوله جلت قدرته : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ}القمر1 وقوله عز من قائل : { أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } النحل1 .
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه قول الله تعالـى :
{ أَتَى أَمْرُ اللّهِ } انتفض قائما ، فلما نزل قوله تعالى : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } جلـس . انظروا أحبائى فى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبى الأمة انتفض وقام من مكانه لأنه يعلم عظم قول القادر الجبار { أَتَى أَمْرُ اللّهِ } فاستشعروا ذلك عباد الله وأنتم لكتاب الله تقرأون وليحذر ذلك الذين فى دنياكم يلهون ويلعبون .
وقبل الاسترسال فى الحديث عن الساعة وأشراطها فإنى وجدت أنه لزاما علينا أن نحذر من الفتن المقبلة بأن نورد على مسامعكم ما ورد من أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيها عن تلك الفتن المقبلة أخرج الإمام أحمد وغيره من قول صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إن بين يدى الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرج فيها مؤمنا ويمسى كافرا ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا )) .
كما أورد البخارى فى صحيحه ماء جاء من أحاديث وأخبار عن الفتن فقال : حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزُهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن : أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ، أو معاذاً، فليعذ به).
ومن الفتن أن يكثر من يأمرون بالمعروف ولا يفعلونه ، قال البخارى حدثني بشر بن خالد: أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان : سمعت أبا وائل قال : قيل لأسامة: ألا تكلِّم هذا؟ قال: قد كلمته ما دون أن أفتح باباً أكون أول من يفتحه، وما أنا بالذيأقول لرجل، بعد أن يكون أميراً على رجلين: أنت خير، بعدما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يجاء برجل فيطرح في النار، فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان، ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله) .
وإذا كانت الساعة يسبقها كثير من تلك الفتن وقد حذر منها النبى صلى الله عليه وسلم فإن علامات وأشراط الساعة قسمان صغرى وكبرى ، أمــا
الصغرى فمنها ما مضى وانقضى ، ومما انقضى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله عليه الصلاة والسلام : (( بعثت أنا والساعة كهاتين)) يشير بإصبعيه السبابة والوسطى فيمدهمـا أخرجه البخارى وفى رواية لأحمـد أنه قـال: (( كادت لتسبقنى )) وفى ذلك دليل على اقترابها بالنسبة لما مضى من الدنيـــا ، فأول الاشتراط وسابقة العلامات بعثة النبى الخاتم خير الرسل وسيد الأنام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فمجيئه إلى الدنيا هو إيذان بقرب انتهائها وانقضاء أمرها وقيام الساعة ، فما بقى من عمر الدنيا بمجرد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الشئ اليسير بالنسبة لما ما مضى من عمـر الدنيا ، روى البخارى ومسلم عن
عبد الله بن عمر من طريق مغيره ابن حكيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( مابقى لأمتى من الدنيا إلا كمقدار إذا صليت العصر)) وفى رواية للبخارى عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال : (( إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس )) .
ومن العلامات انشقاق القمر ، قال تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ }القمر1، قال بن كثير رحمه الله : ( وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر وقع فى زمان النبى صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات ) وقد روى البخارى ومسلم وأحمد وغيرهم هذا الخبر وذلك أن أهل مكة سألوا النبى صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأشــار بإصبعه إلى القمر ودعا ، فانشق القمر وصار فلقتين حتى رأوا جبل حراء بينهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشهدوا ، فقالوا : سحرنا محمد !! فقال بعضهم : سلوا المسافرين عن القمر وانشقاقه ، فسألوهم فأجابوا : قد رأينا ما رأيتم ، فقالوا حينئذ : هذا سحر مستمر ، سحر به محمد أعين المقيمين والمسافرين فسبحان الله : { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }الحج46
ومن العلامات.. فتح بيت المقدس فعن فتح بيت المقدس فى حديث صححه البخارى فى كتاب الجزية والموادعة عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أعدد ستا بين يدى الساعة : موتى ثم فتح بيت المقدس ...)) إلى آخر ما ورد بالحديث وقد فتحت بيت المقدس على يد الفاروق عمر بن الخطاب فى القرن السابع عشر الهجرى لما طلب أهلها الروم النصارى من أبى عبيدة ابن الجراح الصلح والأمان على أن يعطوا الجزية للمسلمين واشترطوا أن الذى يتولى عقد الصلح وتسلم مفاتيح المدينة الفاروق عمر لأنهم كانوا يرون فى كتبهم مكتوب: (( أبشرى أورشليم عليك الفاروق ينقيك مما فيك )) .
ومن العلامات ظهور مدعى النبوة يقول صلى الله عليه وسلم مما ورد فى صحيح البخارى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كل يزعم أنه رسول الله )) وقد ظهر على عهده وبعده صلى الله عليه وسلم دجالون كثيرون ومتنبئون كذبة منهم مسيلمة الكذاب والأسود العنسى وطليحة الأسدى وسجاح والشقي غلام القاديانى وغيرهم ، فبعض الذى قاله خير الأنام جرى والبعض يأتى كما قد نص فى الخبر وسوف تظهر تصديقا له فتن كقطع ليل خلا من غرة القمـــر .
عباد الله ... وأشراط الساعة التى صحت بها الأحاديث ظهر كثير منها فى هذه العصور ولا تزال فى ازدياد ونشور ، من أعلمها ظهور الشرك ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ حيث بنى كثير من الناس الشواهد على القبور وطافوا بها وتمسحوا بالستور ونذروا لها من دون الله وأموها بالتبرك
والرجاء وكشــف الكربات والالتجاء ، وعن هذه العلامـةأخرج أبو داود والترمذى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتى بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتى الأوثان ))
قال ابن القيم رحمه الله فى شرح المنازل :
(( ومن أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستعانة بهم والتوجه إليهم ، وهذا اصل الشرك العالم ، فان الميت قد انقطع عمله ، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا )) ، ويقول ابن القيم أيضا :
(( ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده وان لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخداما وصدق ، هو استخدام من الشيطان ))
ومما قاله رحمه الله محذرا من ذلك :
ومن أشراط الساعة الصغرى ظهور المعازف واستقلالها وفشوها واستفحالها ، أخرج الهيثمى فى مجمعه والطبرانى فى معجمه عن سهل بن سعد رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( سيكون فى آخر الزمان خسف وقذف ونسخ ، قيل ومتى ذلك يارسول الله ؟ قال : إذا ظهرت المعازف والقينات )) .
والقينات أي المغنيات أو بلغة العصر المطربات ، قال جل وعلا: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }لقمان6 قال بن مسعود فى لهو الحديث ( هو والله الغناء ) وفى رواية:( هو الغناء والله الذى لا اله إلا هو ) ، وقال الحسن البصرى : نزلت هذه الآية فى الغناء والمزامير ، وقد عظم ظهور هذا الفساد وانتشر واستشرى فحشه فى الارض وأضر ، وهذا ما يرى ويسمع تلك الأيام ليل نهار عبر الفضائيات من أصوات المعازف وغناء للمغنيات الكاسيات العاريات . فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
اللهـم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن
